أستاذ الفلسفة الحدیثة والمعاصرة رئیس قسم الفسفة بکلیة بابل إربیل کوردستان - العراق والمقيم بالسويد حاليًا
المستخلص
يمثل المجتمع بالأساس ميکانيکية من خلالها يتم "تنظيم" للعلاقات بين افراد جماعة معينة. فعلى هذا الأساس بنيت جميع النظريات الاجتماعية منذ بدايات الفکر وولادة أولى المجتمعات البشرية. لکن ماذا يعني هذا "التنظيم" وما الذي يبرر وجوده وديمومته؟ يمکن أن يأتي الجواب: تنظيم العلاقات بين الافراد لکونهم بحاجة إلى وسيلة تثبّت الحدود بينهم ومنه إلى تثبيت استقلالية کل واحد منهم. وهذا يقود إلى قناعة مفادها أن التنظيم يجد أحد مبرراته وجوده، من جهة، في "مساعدته" کل فرد في أن "يعرف" هويته ضمن جماعة لا تمتصه. ومن جهة أخرى، تبقى الجماعة مکانا "مشترکا" للکل لا لأحد معين. فالمجتمع يتطوّر عندما ينمو الفرد فيه في استقلالية تحمي الجميع.
لکن هلبالإمکان فقط حصر سبب وجود التنظيم الاجتماعي في فکرة "حماية" الفرد والجماعة بشکل تبادلي، أحدهما من الآخر؟ إن الانسياق إلى هکذا برهان يُسقط التنظيم في فکرة ساذجة عن الانسان وبالتالي، عن محيطه المجتمعي. بکلمة أخرى، أليس للتنظيم الاجتماعي وللتحضر بالتالي، أسباب أخرى أکثر تعقيدا تترسخ في طبيعة البشر ودرئ ميلهم الطبيعي إلى العنف؟ أليس التنظيم الاجتماعي والتحضر تقنينا للعنف الکامن في الفرد وکبحا لامتداده السرطاني. أليس التقنين ووضع القوانين هو کبح لعنف البشر وتثبيته "بقوة" في حدود، "قوانين" للحد من انتشاره؟ هکذا يبدو أن التنظيم الاجتماعي يجسد "عنفا" بوجه "عنف" البشر الطبيعي. إنها "مفارقة" صارخة تنبعث من صراع داخل الانسان يجسد تمزقا داخليا يعيشه کل منا في مسيرته الوجودية. فمن قلب هذا التمزق تولد "المفارقة الجدلية" بين رغبة الانسان في البقاء في انسانيته عن طريق احترام الآخر ونزوعه إلى ضمّ "کل" شيء إليه. وهذا التمزق ليس سوى صراع داخلي بين نهم امتلاک، يفرض عليه المساومة والتضحية بکينونته لصالح "فوضى الفردانية" وبين ميل الانسان إلى "الإيثار" وتفضيل الغير وهذا يدرج کينونته ضمن ديمومة التنظيم والاجتماعية. وهذا ما طرحه غابرييل مارسيل في مؤلفه "الکينونة الامتلاک". هکذا يبدو وکأن المجتمع لا يوجد ولا يدوم إلا ضمن الديناميکية التي تنشأ من جدل المفارقة بين عنف الطبيعة البشرية ورغبتها في البقاء.